حدث ثقافى وسياسى يتجاوز حدود البحث فى التاريخ حرب 48 فى موسوعة مصر والقضية الفلسطينية

فى غضون العدوان الإسرائيلى على قطاع غزة ديسمبر 2008/ يناير 2009 ولدت فكرة «موسوعة مصر والقضية الفلسطينية». وبالفعل تشكلت لجنة لكتابة الموسوعة برئاسة الدكتور «عادل حسن غنيم» المؤرخ الكبير المتخصص فى القضية الفلسطينية ،
وذلك تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة . وانتظر الجزء الأول للموسوعة الذى يغطى مرحلة الحرب العالمية الأولى ووعد بلفور كى يصدر الى خريف عام 2012. وبحلول نهاية الأسبوع الماضى احتفلت اللجنة المشرفة على الموسوعة بإصدار الجزء الثانى الذى حمل عنوان «حرب 1948»، وإن امتد الى تغطية عقد الثلاثينيات من القرن العشرين ومشروعات وقرارات تقسيم فلسطين .كما استمر فى تتبع الموقف المصرى الى مابعد الحرب وصولا الى مقدمات وارهاصات ثورة 23 يوليو 1952.
دلالة مواصلة هذا الجهد العلمى انطلاقا من وثائق ومصادر التاريخ فى السياق السياسى لأيامنا هذه أمر يجب التوقف أمامه بالثناء والتقدير . إذ لم نعد فقط إزاء تصور مفاده ان مصر منشغلة بهمومها الداخلية وبترتيب بيتها بعد ثورة 25 يناير 2011 على نحو ينزوى فيه الاهتمام بالقضية الفلسطينية والصراع العربى الصهيونى على نحو ملحوظ , بل ثمة موجة دعائية جديدة من «شيطنة الفلسطينيين» .تستغل السخط الشعبى على جماعة الإخوان وحكمها للبلاد. وتحاول ان تمتد بهذا السخط من دائرة انتماء حركة حماس للجماعة و اخطاء الحركة الى دوائر أوسع وأبعد .وكى تشمل كل قطاع غزة وأهلها. بل كل الشعب الفلسطينى ومعه القضية الفلسطينية والصراع مع الصهيونية . وفى هذا الاستغلال غير البرىء يجرى اعادة انتاج المقولات نفسها التى اختبر المصريون فسادها علميا وسياسيا ووطنيا وقوميا مع اتفاقات كامب ديفيد .وما صحبها فى نهاية عقد السبعينيات من انعزال وانغلاق على وطنية مصرية ضيقة وهشة وعداء لهوية مصر العربية وعدم اكتراث بحقائق الجغرافيا والتاريخ والأمن القومي.

فى هذا التوقيت يأتى المجلد الثانى لـ «موسوعة مصر والقضية الفلسطينية ويضم مقدمة محرر الموسوعة الدكتور «غنيم» و نحو 19 بحثا ومقالا علميا بأقلام كوكبة من المؤرخين و باحثى العلوم السياسية . ويلفت النظر بداية تفاوت الجهد المبذول بين دراسات موثقة تعتمد العديد من المراجع الأصلية مثل الوثائق الرسمية فى أرشيفات الدولة المصرية وبين مقالات غير موثقة على الإطلاق. وفى كل الأحوال تتضح ندرة اللجوء الى الوثائق الأجنبية ( غير المصرية ) فى غالبية فصول الموسوعة, بما فى ذلك أرشيفات دول كبرى على صلة بموضوع الموسوعة والقضية الفلسطينية فى تلك الفترة . كما يتضح أيضا ضعف الاستفادة من مدرسة المؤرخين الجدد فى إسرائيل . ولها اسهامات نقدية مهمة فى تعرية الصهيونية و عن حقيقة حرب 1948, وبصرف النظر عن مآل توجهات العديد من رموزها مثل «بنى موريس». لكن انتقاد هذه الموسوعة من هذه الزاوية لا يقلل مطلقا من أهميتها.فهى من دون شك خطوة تحليلية الى الأمام إذا ما قورنت بالمطبوعات الوثائقية التى صدرت فى السابق عن هيئات رسمية فى القاهرة مثل :وزارة الخارجية والهيئة العامة للاستعلامات, وكذا الجامعة العربية.

القارئ العام غير المتخصص يجد بين صفحات المجلد الذى جاوز 650 صفحة ما قد يعين على اعادة قراءة التاريخ والحاضر . فمثلا سيكتشف فى دارسة الدكتور «عبد الوهاب بكر» أن عدد شهداء الجيش المصرى فى حرب 1948 هم 97 ضابطا وفق وثائق وزارة الحربية. فى حين غاب عن هذه الوثائق تسجيل عدد الشهداء بين الجنود . وسيكون لافتا لهذا القارئ أن يعلم بأن نحو عشرة ضباط من بين هؤلاء الشهداء هم من المسيحيين الأقباط . كما سيتضح ان غالبية الضباط الشهداء سقطوا فى مناطق على الحدود المصرية, أولاها دير البلح فرفح ثم العوجة, والأخيرة داخل شبه جزيرة سيناء ذاتها . وفى دراسة «أسرى حرب فلسطين» للدكتور «عبد المنعم الجميعي» سيعرف القارئ بالوثائق الرسمية للدولة المصرية أن عدد أسرى الجيش المصرى فى حرب 1948 لا يتجاوز 212 أسيرا ، من بينهم 33 ضابطا وصولا ومدنيا ، وذلك مقابل 149 أسيرا إسرائيليا . كما أن شهادات الصليب الأحمر ـ الذى أشرف لاحقا على تبادل الأسرى فى «قبرص» أفادت بحسن معاملة المصريين لأسراهم مقابل ما واجهه الأسرى المصريون والعرب لدى الإسرائيليين من مصاعب جمة لا تتفق مع القوانين والأعراف الدولية.

كما للدكتور «الجميعي» دراسة أخرى بالمجلد بعنوان «المتطوعون المصريون ودورهم قبل الحرب وخلالها» .كشف فيها عن أن قوام قوات البطل الشهيد القائمقام «أحمد عبد العزيز» كان يتكون من نحو 400 متطوع، من بينهم 120 من التونسيين . وفى كل الأحوال فسيتضح لقارئ الموسوعة أن عدد الجنود والمقاتلين المصريين الذين شاركوا فى حرب 48 لم يتجاوز 14 ألفا من بين نحو 47 ألف جندى ومقاتل عربى وفى مقابل نحو 98 ألف إسرائيلي، بينهم نحو 50 ألفاً انخرطوا فى الجيش النظامى للدولة العبرية . وهذا وفق ما نشره الدكتور «جمال شقرة» فى دراسته بعنوان : «أسباب هزيمة العرب 1948». كما قد يلفت نظر القارئ أن ترتيب مصر فى استقبال أعداد اللاجئين الفلسطينيين المصاحبين لقيام إسرائيل بين الدول العربية كان هو الخامس بعد سوريا ولبنان والأردن والعراق . حيث جاء الى مصر ـ وفق وثائق دراسة الدكتورة إيمان عامرـ من هؤلاء اللاجئين ضحايا المجازر الصهيونية نحو عشرة آلاف لاجئ . فى حين خص سوريا وحدها110 آلاف .

وفى الكتاب دراسات مخصصة لموقف الحكومات المصرية والساسة والنخب من مشاريع تقسيم فلسطين، نهاية بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة فى 29 نوفمبر 1947. وتعكس هذه الدراسات وعيا مبكرا بخطر قيام دولة يهودية على الأمن القومى لمصر. ووفق قراءة السفير «محمد صبيح» مساعد الأمين العام للجامعة العربية وأمين سر المجلس الوطنى الفلسطينى لهذه الدراسات فإن دور الدبلوماسية المصرية يستحق الإشادة والتحية . وقال فى الندوة التى نظمها المجلس الأعلى للثقافة الخميس الماضى بمناسبة اصدار الجزء الثانى من الموسوعة أن للخارجية المصرية دورا تاريخيا إزاء قرار التقسيم والقضية الفلسطينية اجمالا ،ويكشف هذا الدور عن وعى كبير بارتباط الأمن القومى لمصر وفلسطين ارتباطا استراتيجيا . أما المؤرخ والكاتب الفلسطينى «عبد القادر ياسين» فقد نبه فى نقده الموسوعة الى وقائع تاريخية تجاهلها المجلد. وعلى قدر أهميتها كان من شأن تناولها إثراء هذا العمل الموسوعى الكبير. واللافت فى هذا السياق أن الدكتور «عادل غنيم» أشار الى أن عسكريين مصريين سابقين سيشاركون فى كتابة الجزءين الثالث والرابع من الموسوعة عن حربى 1956 و 1967.

المجلد الثانى من موسوعة «مصر والقضية الفلسطينية» بما يحمله الإصدار من دلالات فى هذا التوقيت بدأ بمقال للباحث والسياسى الليبرالى الدكتور «عماد جاد» بعنوان «فلسطين والأمن القومى المصري». وقد استعاد فيه خبرة التاريخ المصرى القديم زمن الحكام الفراعنة وقبل آلاف السنين فى الوعى والممارسة بأن أمن مصر يبدأ من فلسطين . وانتهى المجلد بمقال للمؤرخ والكاتب القومى اليسارى الدكتور «عاصم الدسوقي» أوضح خلاله ان حالة السخط وعدم الاستقرار التى اعقبت هزيمة 1948 قادت مصر الى ثورة 23 يوليو 1952.

وبين هذا وذاك توالت دراسات ومقالات المجلد لتكشف عن حقائق لافتة نحتاج الى استظهارها فى حاضرنا هذا, وتطرح قضايا فيها من التاريخ والسياسة معا ما نحتاج الى إعادة مناقشته على نحو أكثر علمية وموضوعية .

وعلى أى حال، فإن إصدار المجلد الثانى من هذه الموسوعة من القاهرة فى هذا التوقيت لهو حدث ثقافى سياسى يتجاوز الحدود العلمية البحثية لأوراق بحثية فى التاريخ تجمعها دفتا كتاب.

الكتاب : موسوعة مصر وفلسطين (المجلد الثانى :حرب 1948)

الناشر : المجلس الأعلى للثقافة ( لجنة توثيق تاريخ مصر والقضية الفلسطينية ).

عدد الصفحات : 660صفحة.

Similar Posts