«حكاية جينجى» بالعربية.. تغير مستقرات تاريخ الرواية عمل ملحمى كتـب قبل ألف عـام على يد كاتبة يابانية

حتى أيام قليلة، كنت لا أزال على قناعة، وفقا للمتفق عليه، أن رواية الإسبانى الأشهر ميجيل دى سرفانتس، المعروفة باسم دون كيخوته دى لا مانشا، تعد العمل الروائى الأول الذى تأسست عليه مفاهيم وأسس الرواية الغربية كما نعرفها اليوم، وكما استلهمناها نحن وأaضفنا عليها بتراثنا ولغتنا. على الرغم من أنها تنتمى قطعا إلى نوع خاص من الأدب عرف باسم روايات الفرسان والمغامرات.

حين قرأت مقدمة كامل يوسف حسين ثم مقدمة المترجم الذى نقلها للإنجليزية رويال تايلر، كنت أتوقع نصا ذا لغة عتيقة، قريبة من نصوص بعض السرديات والملاحم الآسيوية القديمة، لكن المفاجأة تمثلت فى وضوح اللغة وانسيالها، من جهة، وفى القدرة المبهرة للكاتبة على تناول عدد كبير من الشخصيات ورسمها ببراعة وخصوصية تعبر عن موهبة قوية حقا، من جهة أخرى، خصوصا أن الحوارات التى تدور بين أبطال العمل تعبر عن القدرة على إظهار روح المرح والذكاء فى الحوارات الطويلة التى تشكل جانبا كبيرا من جسد هذا العمل. ولدت موراساكى شيكيبو كما أسلفت فى عام 973م ابنة للارستقراطية الوسطية التى أمدت اليابان بحكام الأقاليم، وتنتمى إلى عائلة فوجيوارا الممتدة، وفى بعض الفروع الأخرى ذات القوة الفائقة، ولكن اسمها الأول لم يقدر له أن يسجل.
عمل والد الكاتبة حاكما لعدد من المقاطعات اليابانية. وفى نحو العام 1006 استدعيت موراساكى لخدمة الإمبراطورة أكيكو (أوشوسي)، عقب وفاة زوجها، ويبدو ان استدعاءها كان له علاقة بموهبتها فى الكتابة.
جينجي، بطل الحكاية، هو ابن إمبراطور من إحدى المحظيات، التى فقدت أباها، ومن ثم لم يكن لها أى دعم يتجاوز إخلاص الإمبراطور الشخصي، وهو ما لم يكن كافيا وفقا للتقاليد الإمبراطورية خصوصا وقد كان للإمبراطور ابن من زوجته الرسمية، وبالتالى يقوم الأب بإبعاد جينجى عن العائلة الإمبراطورية ومنحه اسم عائلة بحيث يمكنه أن يخدم البلاد باعتباره من العامة من جهة، وبحسبانه مسئولا حكوميا رفيعا من جهة أخرى. وصحيح أن هذا الفتى، الوسيم بدرجة تفوق الوصف، الذى يتولى المناصب الرفيعة لاحقا فى البلاط، يجسد مركز الحكاية، لكن تأمل النص يكشف عن أن احكاية جينجيب تدور أولا وأخيرا حول النساء، كما يشير كامل حسين، وكما يتجلى بالفعل فى سطور النص، بحيث يبدو وجود جينجى رغم أهميته ومركزيته تكئة للتعرف على مشاعر النساء وطرق تفكيرهن، ووضع المرأة فى البلاط فى تلك الحقبة . ومن اللافت حقا كيف كان النص يستخدم بعض العبارات أو الكلمات التى يبدو أنها كانت تراعى الوضع الأخلاقى للمجتمع الهاييني، من مثل قول الكاتبة أن جينجى رأى امرأة يحبها فى ظلام الغرفة، وهى هنا كناية عن أنه مارس معها الحب. ويبدو ان الكاتبة كانت كثيرا ما تستخدم كلمة «رأى» للتعبير الإيروتيكى عن الممارسة الحسية.
أيضا كنت، فى أثناء القراءة، أحاول اختبار مدى أصالة سمات بعض الكتابات اليابانية المعاصرة، وخاصة ياسونارى كاواباتا، التى تتعلق بارتباط أبطال العمل، والإنسان عامة بالطبيعة، أو بإظهار تلك الوحدة الباطنية بين روح الإنسان وروح الطبيعة، وعلى الرغم من أن أغلب وقائع العمل تدور فى الغرف المغلقة وباحات القصور الملكية، لكنى تبينت فى النص، فى عدد من المشاهد التى تدور خارج البلاط هذه السمة نفسه. وهناك العديد من الفقرات التى تصف تردد الأبطال على المعابد، ووصف الطقوس والأفكار الروحية. ولكن ما يمكن تأمله أكثر جدا، بطبيعة الحال، هو العديد من العادات والتقاليد، وطقوس الحياة اليومية لليابانيين فى تلك المرحلة التاريخية. فيما يتعلق بتاريخ هذا النص يوضح كامل يوسف حين أنه لم يقدر لأى مخطوطة للحكاية من أى وقت قريب من عصر موراساكى شيكيبو البقاء، وأقدم شذرات نصية معروفة تظهر فى اجينجى مونوجاترى إيماكي«، وهى مجموعة غير كاملة من النصوص الإيضاحية العائدة لأواخر القرن الثانى عشر. وبحلول القرن الثالث عشر تعرض النص للتحريف بعد أن نسخ مرارا، وانطلق باحثان بصورة مستقلة لإعادته إلى أصله، كان أحدهما هو مينا موتو نو ميتسويوكى (ت 1244)، واستكمل عمله ابنه تشيكايوكى فى عام 1255. إضافة إلى محاولة أخرى لتجميع النص على يد الشاعر والأديب الكبير فى اليابان فوجيوارانوتيكا (1162- 1241) جرت فى الفترة نفسها. ولا بد من الإشارة فى الحقيقة إلى أن المترجم كامل يوسف حسين فى الحقيقة يوفر فى تقديمه للترجمة نصا نقديا ومعلوماتيا ومعرفيا غاية فى الأهمية، لأنه يقدم فيه، إضافة لملخص الفكرة، وتاريخ جمعها، وتنقيحها، وأبطالها وكاتبتها، صورة عامة عن طبيعة العلوم والمعرفة والقراءة فى ذلك العصر، والموقف الفكرى من الادب مقارنة بالفلسفة والفكر والعلوم فى ذلك الوقت، ودور النساء فى القراءة، وغيرها من التفاصيل الدقيقة عن تقدير زمن نص العمل، ولغته.
الكتاب: حكاية جينجى
المؤلف:موراساكى شيكيبى
الناشر: هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث ـ دار الكتب الوطنية
المترجم: كامل يوسف حسين
الصفحات: الجزء الأول 894 صفحة، الجزء الثانى 908 صفحات

لكنى الآن بعد أن قرأت ما يقرب من ثلثى الجزء الأول من عمل ضخم، مبهر، تحت عنوان «حكاية جينجي»، الصادر عن «هيئة أبو ظبى للثقافة والتراث» المجمع الثقافي، وجدتنى مضطرا لمراجعة ما أعرفه عن تاريخ الرواية، لأن هذا النص الذى تمت ترجمته أخيرا إلى العربية على يد المترجم القدير كامل يوسف حسين فى مجلدين من ألفى صفحة، يعود تاريخ كتابته إلى عام 1000 ميلادى تقريبا، أى أن عمره يتجاوز الألف عام، ويسبق روايات الفروسية بما يقرب من نصف قرن على الأقل. أما المفاجأة الثانية التى يقدمها هذا النص فهى أن كاتبته امرأة تدعى موراساكى شيكيبو، ولدت عام 973م، فيما توفيت وفق أغلب الترجيحات بين العام 1014، أو 1025، وفقا لبعض المصادر. وهو ما يجعل الكثير من النقاد، وفقا لما أورده المترجم فى مقدمته للنص، يعتبرون هذا العمل ليس فقط أول رواية فى تاريخ الأدب الحديث، بل أول نص أنثوى كذلك. اكتشف أو ظهر بين عامى 1006 و1008 وبعض المصادر تشير إلى أن كتابته استغرقت عقدا كاملا. والمدهش أيضا أن هذا النص يكشف كيف أن هذه السيدة بالنسبة للأدب اليابانى تعد مثل شكسبير فى الأدب البريطاني، أو كما يقول كامل يوسف حسين» اكانت مؤلفتها امرأة يعد عملها فى الأدب والثقافة اليابانيين فى مصاف الملاحم الهوميروسية، وأعمال شكسبير، ورائعة بروست االبحث عن الزمن المفقود«، فى بلاد أخرى، وفى غضون عقود قلائل من إكمالها فى أوائل القرن الحادى عشر نظر إليها على أنها عمل كلاسيكى وتعددت الكتابات عنها على مر القرون. وقد ترجمت ترجمات كاملة من الأصل إلى الألمانية والفرنسية والروسية والصينية والكورية، وحاليا يجرى ترجمتها للتشيكية والإيطالية والفنلندية، إضافة إلى الترجمة الإنجليزية التى ترجمت عنها هذه الترجمة البديعة للغة العربية.

Similar Posts